كان كبير قوم يقضي بين الناس بالحق ، وكان مشهود له بالعدل ونشر الخير
والإصلاح بين الناس ، وكان له من أبنائه ، شاب لا يؤمن بقدرة أبيه ، على حل المعضلات الصعبة بين الناس ، أراد هذا الشاب أن يختبر والده ؛ ليتأكد من مهارته وبراعته ، في القضاء بين الناس .
ترك الشاب والده وخرج بين القبائل ، يبحث عن رزقه في بلاد الله الواسعة ، فاهتدى إلى بيت رجل متزوج من اثنتين ، ومكث عنده يعمل في الزراعة والحصاد ، من غير أن يعلم أحد ، أنه ابن ذلك القاضي الشهير .
كان للزوجة الثانية طفلا صغيرا ، رزقها الله به بعد زمن طويل من الحرمان ، ولم يكن لزوجته الأولى أحد من الأبناء ، فكانت عاقرا ، وكان بين الزوجتين تناحر وغيرة وشقاق ، وفي يوم من الأيام أصرَّت الزوجة الأولى في نفسها مكيدة للزوجة الثانية ، فهي تشعر بأن زوجها لا يحبها كما يحب الزوجة الثانية ، وأن زوجها يميل إلى الثانية بسبب طفلها ، أما هي فلا تملك أطفالا ، وهكذا اشتعلت نيران الحقد في قلبها .
وفي حين غفلة ، وبينما كان الطفل الصغير يلهو فرحا ، اختطفته أيدي الزوجة الماكرة ، وألقت به في بئر للمياه فمات .
كان ابن القاضي الذي يعمل في الزراعة عند زوجها ، يرقب عن بُعد ٍ ما يحدث ، ولكنه لا يتمكن من الكلام ، كما لم تشعر به الزوجة القاتلة ، عندما فعلت فعلتها .
اجتمعت العشيرة ، وتباحثوا فيما بينهم عن سبب قتل الطفل ، ومن الذي يقف من وراء هذا الحدث الأليم المفزع ، واتجهت الأنظار صوب تلك المرأة ، ولكنهم لا يملكون دليلا واحدا ضدها ، وأخيرا اتهمها زوجها بأنها من وراء قتل الطفل ، أنكرت المرأة القاتلة بشدة ، وتدخلت عشيرتها ، وأصبحت كل عشيرة تتهم الأخرى أنها هي التي تقف وراء قتل الطفل ، وكادت الحرب أن تقع بين العشيرتين ، وأخيرا اتفق الجميع على القضاء العشائري ليحكم بينهم .
أجمع الحاضرون ، على التقاضي عند شيخ العشيرة الشهير ، والمشهود له بنزاهته ونقائه وبراعته ، في القضاء بين الناس ، إنه القاضي أب العامل الذي يعمل عندهم في المزرعة ، وهم لا يعلمون أن هذا العامل هو ابن ذلك القاضي .
كان العامل يجلس قريبا منهم ، يراقب ويستمع لما يدور من هنا وهناك ، وقال في نفسه : إنني تركت والدي ؛ لأنني لا أثق بقدرته على حل المعضلات الصعبة ، والآن تشهد له الناس بالخير والنزاهة والذكاء ، فهذه واحدة بحق أبي ولأنتظر الثانية .
ذهب الجميع إلى القاضي ، وبينهم ابنه الذي كان متخفيا بلثام ، واعتبر أن هذه فرصة قوية لاختبار والده ، في حل المعضلات الصعبة بين الناس ، بدأ الحاضرون يقصّون للقاضي ما حدث بشأن الطفل المغدور ، وابنه يستمع باهتمام كبير، ينتظر حكم والده .
بعد أن أنهى الجميع كلامهم ، قال القاضي للزوجة الثانية أمّ الطفل : اعرف انك لم تقتلي الطفل ، وأنك أمه الرؤوفة الطيبة ، ولكنني أريد منك طلبا واحدا فقط ، سوف يَثبُت من خلاله براءتك أمام العشائر .
قالت له وما هو ؟ قال لها : أريد منك أن ترفعي ثوبك عن ساقيك أمام جميع الحاضرين ، ثم تمشي من أمامنا خمسين مترا ، صرخت المرأة في وجهه غاضبة مقسمة ، أن لو مات العرب جميعهم ، وعن بكرة أبيهم ما فعلْت ما يطلبه منها .
توجه القاضي إلى الزوجة الأولى التي قتلت الطفل ، وطلب منها ما طلبه من الثانية ، فقالت له : أرفع ثوبي ، وأثبت براءتي ، بإظهار الساقين الاثنتين ، وليست الساق الواحدة .
عندئذ أصدر القاضي حكمه أمام جميع الحاضرين قائلا : أنت التي قتلت الطفل .
وفجأة وأمام الجميع ، كشف ابن القاضي اللثام عن نفسه ، ووقف قائلا بأعلى صوته : أشهد يا أبي بأنك القاضي الحق النزيه ، شهد العرب لك ببراعتك وبعدلك ، وبحسن تصرفك ، فقد رأيتها بعيني تلقي بالطفل في بئر للمياه .